قرية وأحلام- حنين أبو عامر إلى ماضي الوادي المخضر

المؤلف: علي بن محمد الرباعي08.06.2025
قرية وأحلام- حنين أبو عامر إلى ماضي الوادي المخضر

فتح أبو عامر نافذة كوخه الخشبي العتيق، فرأى الوادي الأخضر يانعًا. رفع بصره نحو السماء الفسيحة، مهمهمًا بدعاء خافت: "يا الله، أنت ملاذنا. ربّ لا تجمع علينا ضيقتين؛ ضيق العيش، وقحط السماء". الغيوم الرقيقة كانت تتهادى برشاقة فوق قمم جبال القرية، كأسراب الطيور المهاجرة. الأغنام البيضاء انتشرت كاللآلئ المتناثرة فوق المقابر الهادئة وعلى المنحدرات الشاسعة. القرية كانت لا تزال غارقة في سكون الفجر، والرعاة البسطاء ينتظرون بشوق أن تمنحهم شمس الخريف الدفء المنشود.

التفت أبو عامر إلى الخلف، فشعر بالشفقة على صغاره الغارقين في نوم عميق. أعاد ترتيب اللحاف الصوفي على أجسادهم النحيلة برفق. ثم نادى ابنته الكبرى برفق: "رفعة". تمطت الفتاة بنعاس، وردت بصوت خفيض: "أصبحت يا أبي". أجابها بصوت حنون: "بخير يا ابنتي. هيا أسرعي لإخراج غنمك إلى المرعى. لقد أطلقتها من الحظيرة بعد أن أرضعت صغارها". ارتدت رفعة شيلتها المزركشة، وربطتها على رأسها بالمعصب الفضي. ثم أضافت إليها الشرشف الأبيض المطرز. تناولت من يد أبيها بضع تمرات يابسة وكسرة خبز سمراء وانطلقت بخفة ورشاقة.

سمع صوت جاره الودود، أبو حسن، يتسلل إليه من المزراب الطيني: "يا محمد، هل سنبدأ العمل اليوم؟". أجابه أبو عامر بتصميم: "نعم، يا جار". رد أبو حسن بمحبة: "يا نا فداك. سأسبقك لتركيب العداد، وسأوقظ اليمنة". وما هي إلا ساعة، حتى بدأت الدلاء الممتلئة بماء البئر تتدفق بغزارة، يسحبها الثور القوي. والعم علي، المزارع العجوز، يلاطف الثور بأشعاره الشعبية: "ازهموني بالشويش. والزمو ثوري حبيش". ثم يرفع صوته بالتضرع: "علّ وعلى الله الفرج".

فريق العمل المكون من رجال يمنيين أشداء، يعكفون على تنظيف البئر بجد واجتهاد، يغرفون الحجارة والأتربة المتراكمة بالمساحي الثقيلة، ويضعونها في القفف المتينة. وبينما المذياع الصغير يصدح بصوت فيصل علوي الشجي من قاع البئر العميقة: "كيف الحال وامغترب"، يفوح شذى الحبق العطري. وتتناغم أصوات العصافير المرحة. ويخفت همس الصبايا الحالمات بأحلامهن الوردية وأسرار نوياهن. وتتبهرج أقدام النساء على المنحدرات الوعرة، ليملأن القرب بماء البئر العذب الزلال.

مرت الأعوام سراعًا كلمح البصر. وأبو عامر يتكئ على جدار القف المتصدع، يتأمل حاله بأسى. زفر تنهيدة عميقة وهو يتهارج مع نفسه: "أوووه يا بو عامر. كيف انقضت الأيام بهذه السرعة؟ وتبدلت الأحوال وتغيرت. الركب أصبحت مليئة بالتجاعيد العميقة، كأنها وجهي الذي طبعت عليه بصمات السنين القاسية. المساقي تشققت مثل كعوب القدمين المتعبتين. والآبار موحشة مهجورة، تهدمت أركانها وزال منها الماء". لقد هجره جميع أولاده إلى وظائفهم المرموقة في المدن الصاخبة. وظل وحيدًا يعيش ذكرياته على الطرقات المتربة، يراقب الوجوه الغريبة والأعين العابرة. سمع أحدهم قبل سفره يتمتم بازدراء: "أبى يسمع الكلام، هذا الشيبة العنيد. يفضل البقاء في هذه القرية الموحشة الكئيبة". تذكر أبو عامر ما أنفقه من عمره وشبابه في سبيل تعليمهم وإطعامهم وتأمين احتياجاتهم. طفرت دمعة ساخنة مالحة وردد بمرارة مع خرصان قديم: "يا خساره على اللي لا كبر قام يعطي الجـن بوه". علمي وسلامتكم.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة